فصل: تفسير الآيات (49- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {فلبثت سنين في أهل مدين} [طه: 40] قال: عشر سنين {ثم جئت على قدر يا موسى} [طه: 40] قال على موعد.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ثم جئت على قدر} قال: الميقات.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ثم جئت على قدر} قال: على موعد.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {ولا تنيا في ذكري} قال لا تضعفا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، عن قتادة- رضي الله عنه- مثله.
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد- رضي الله عنه- مثله.
وأخرج الطستي، عن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله- عز وجل- {ولا تنيا عن ذكري} قال: ولا تضعفا عن أمري.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت الشاعر وهو يقول:
إني وجدك ما ونيت وإنني ** أبغي الفكاك له بكل سبيل

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {ولا تنيا} قال: لا تبطئا.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه في قوله: {فقولا له قولًا لينًا} قال: كنه.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {فقولا له قولًا لينًا} قال: كنِّياه.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن سفيان الثوري: {فقولا له قولًا لينًا} قال: كنياه يا أبا مرة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن {فقولا له قولًا لينًا} قال اعذرا إليه، وقولا له: إن لك ربًا ولك معادًا وإن بين يديك جنة ونارًا.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الفضل بن عيسى الرقاشي أنه تلا هذه الآية {فقولا له قولًا لينًا} فقال: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولى ويناديه؟.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {لعله يتذكر} قال: هل يتذكر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إنا نخاف أن يفرط علينا} قال: يعجل {أو أن يطغى} قال: يعتدي.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} قال: عقوبة منه.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج في قوله: {قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} قال: أسمع ما يقول {وأرى} ما يجاوبكما، فأوحي إليكما فتجاوباه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم بسند جيد، عن ابن مسعود قال: لما بعث الله موسى إلى فرعون، قال: رب، أي شيء أقول؟ قال: قل أهيا شرًا هيا. قال الأعمش: تفسير ذلك، الحي قبل كل شيء، والحي بعد كل شيء.
وأخرج أحمد في الزهد، عن ابن عباس قال: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال: لا يغرنكما لباسه الذي ألبسته، فإن ناصيته بيدي، فلا ينطق ولا يطرف إلا بإذني، ولا يغرنكما ما متع به من زهرة الدنيا وزينة المترفين، فلو شئت أن أزينكما من زينة الدنيا بشيء، يعرف فرعون أن قدرته تعجز عن ذلك لفعلت، وليس ذلك لهوانكما علي، ولكني ألبستكما نصيبكما من الكرامة على أن لا تنقصكما الدنيا شيئًا، وإني لأذود أوليائي عن الدنيا، كما يذود الراعي إبله عن مبارك الغيرة، وإني لأجنبهم كما يجنب الراعي إبله عن مراتع الهلكة، أريد أن أنور بذلك صدورهم، وأطهر بذلك قلوبهم فيَّ، سيماهم الذين يعرفون وأمرهم الذي يفتخرون به، وأعلم: أنه من أخاف لي وليًا فقد بارزني، وأنا الثائر لأوليائي يوم القيامة.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبخاري ومسلم وابن مردويه من طريق ابن عباس، عن أبي سفيان بن حرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: «من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى».
وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في الشعب، عن قتادة قال: التسليم على أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم أن تقول: السلام على من اتبع الهدى. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {وَلاَ تَنِيَا}: يقال: ونى يَني وَنْيًا كوَعَدَ يَعِد وَعْدًا إذا فَتَرو... والوَنْيُ الفُتور. ومنه امرأةٌ أَناة، وصفوها بفُتور القيام كناية عن ضَخامتها قال:
مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القومِ يَحْسَبُنا ** أَنَّا بِطاءٌ وفي إبطائِنا سَرَعُ

والأصل وَناة. فأبدلوا الهمزة من الواو كأَحَد في وَحَد. وليس بالقياس، وفي الحديث: «إن فيك لخَصْلتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة».
والواني: المقصِّرُ في أمره. قال الشاعر:
فما أنا بالواني ولا الضِّرَعِ الغُمْرِ

وونى فعلٌ لازمٌ لا يتعدى، وزعم بعضهم أنه يكون مِنْ أخواتِ زَال وانفك فيعمل بشرط النفيِ أو شبهِه عَمَلَ كان فيقال: ما وَنى زيدٌ قائمًا أي: مازال قائمًا. وأنشد الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكٍ شاهدًا على ذلك قول الشاعر:
لا يَنِيْ الحُبُّ شِيْمةَ الحِبِّ ما دا ** مَ فلا تَحْسَبَنَّه ذا ارْعِواءِ

أي لا يزال الحُبُّ أي بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ أي بكسرِها وهو المُحِبُّ. ومَنْ منع ذلك يتأوَّلُ البيتَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ فإنَّ هذا الفعلَ يتعدى تارةً ب عَنْ وتارة ب في. يُقال: ما وَنَيْتُ عن حاجتك أو في حاجتك. فالتقدير: لا يَفْتُرُ الحُبُّ في شِيمة المُحِبِّ وفيه مجازٌ بليغ. وقد عُدِّيَ في الآيةِ الكريمة ب في.
وقرأ يحيى بنُ وثَّاب {ولا تِنِيا} بكسر التاء إتباعًا لحركةِ النون. وسَكَّن الياءَ مِنْ {ذِكْرِيْ}.
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)}.
وذَكرَ المذهوبَ إليه في قوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} وحَذَفه في الأولِ في قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} اختصارًا في الكلام. وقيل: أُمِرا أولًا بالذهابِ لعمومِ الناسِ ثم ثانيًا لفرعونَ بخصوصه، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونَ بخصوصه، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونُ، وقد حَذَفَ من كلٍ من الذهابين ما أثبته في الآخر: وذلك أنه حذف المذهوبَ إليه من الأول وأثبته في الثاني، وحَذَفَ المذهوبَ به وهو {بآياتي} من الثاني وأثبته في الأول.
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}.
وقرأ أبو معاذٍ: {قولًا لَيْنًا} وهو تخفيف مِنْ لَيِّن كمَيْت في مَيِّت.
وقوله: {لَّعَلَّهُ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ لعلَّ على بابها من التَّرَجِّي: وذلك بالنسبة إلى المُرْسَل، وهو موسى وهارون أي: اذهبا على رجائِكما وطَمَعِكما في إيمانه، اذهبا مُتَرَجِّيَيْنِ طامِعَيْن، وهذا معنى قولِ الزمخشري، ولا يَسْتقيمُ أن يَرِدَ ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالمٌ بعواقب الأمور، وعن سيبويه: كلُّ ما وَرَدَ في القرآن مِنْ لعلَّ وعسى فهو من الله واجبٌ، يعني أنه مستحيلٌ بقاءُ معناه في حق الله تعالى. والثاني: أنَّ لعلَّ بمعنى كي فتفيد العلةَ. وهذا قول الفراء، قال: كما تقول: اعمل لعلك تأخذُ أَجْرَك أي: كي تأخذ. والثالث: أنها استفهاميةٌ أي: هل يتذكَّر أو يخشى؟ وهذا قولٌ ساقط؛ وذلك أنه يَسْتحيل الاستفهامُ في حق الله تعالى كما يستحيل الترجِّي. فإذا كان لابد من التأويل فَجَعْلُ اللفظِ على مدلولِه باقيًا أولى مِنْ إخراجِه عنه.
{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)}.
قوله: {أَن يَفْرُطَ}: {أَنْ يَفْرُطَ} مفعولُ {نخاف}. ويقال: فَرَطَ يَفْرُط: سَبَقَ وَتَقَدَّم، ومنه الفارِطُ. وهو الذي يتقدَّم الورادةَ إلى الماء وفَرَسٌ فَرَطٌ: يسبقُ الخيلَ، أي: نخافُ أَنْ يُعَجِّلَ علينا بالعقوبةِ ويبادِرَنا بها، قاله الزمخشري، ومِنْ وُرودِ الفارط بمعنى المتقدِّم على الواردة قولُ الشاعر:
واسْتعجلونا وكانوا مِنْ صحابَتنا ** كما تَقَدَّم فُرَّاطُ لوُرَّادِ

وفي الحديث: «أنا فَرَطُكم على الحَوْضِ» أي: سابقُكم ومتقدِّمُكم.
وقرأ يحيى بن وثاب وابنُ محيصن وأبو نَوْفلٍ {يُفْرَط} بضمِّ حرف المضارعة وفتح الراء على البناء للمفعول، والمعنى: خافا أن يُسْبَقَ في العقوبةِ. أي: يحملُه حامِلٌ عليها وعلى المعاجلة بها: إمَّا قومُه وإمَّا حُبُ الرئاسةِ، وإمَّا ادِّعاؤه الإِلَهيةَ.
وقرأ ابن محيصن في روايةٍ والزعفراني {أَن يُفَرِّطَ} بضمِّ حرفِ المضارَعَةِ وكسر الراء مِنْ أفرط. قال الزمخشري: مِنْ أَفْرَطَه غيرُه إذا حمله على العَجَلة، خافا أَنْ يَحْمِلَه حاملٌ على المُعاجلة بالعقاب، قال كعب ابن زهير.
تَنْفِي الرياحُ القذى عنه وأَفْرَطَه ** مِنْ صَوْبِ ساريةٍ بِيْضٌ يَعالِيْلُ

أي: سَبَقَتْ إليه هذه البِيْضُ لتملأَه. وفاعلُ {يَفْرُطَ} ضميرُ فرعون. وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أَنْ لا يُعْدَلَ عنه. وجعله أبو البقاء مضمرًا لدلالة الكلامِ عليه فقال فيجوز أن يكون التقدير: أن يَفْرط علينا منه قولٌ، فأضمر القولَ لدلالة الحالِ عليه كما تقول: فَرَطَ مني قول، وأن يكونَ الفاعلُ ضميرَ فرعون كما كان في {يطغى}.
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)}.
ومفعولُ {أَسْمَعُ وأرى} محذوفٌ فقيل: تقديره: أسمع أقوالكما وأرى أفعالَكما، وعن ابن عباس: أسمعُ جوابَه لكما وأرى ما يَفْعل بكما، أو يكون مِنْ حَذْفِ الاقتصار نحو: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [آل عمران: 156].
قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}:
قال الزمخشري: هذه الجملةُ جاريةٌ من الجملة الأولى وهي: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} مَجْرى البيانِ والتفسير؛ لأنَّ دعوى الرسالةِ لا تَثْبُتُ إلاَّ بِبَيِّنَتِها التي هي مجيءُ الآيةِ. وإنما وَحَّدَ ب {آية} ولم تُثَنَّ ومعه آيتان؛ لأنَّ المرادَ في هذا الموضعِ تثبيتُ الدعوى ببرهانها، فكأنه قيل: قد جِئْناك بمعجزةٍ وبرهانٍ وحجة على ما ادَّعَيْناه/ من الرسالة، وكذلك قال: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 105] {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 154] {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} [الشعراء: 30].
و{على مَنِ اتبع الهدى} يحتمل أَنْ يكونَ مأمورًا بقوله: فيكونَ منصوبَ المَحَلِّ كأنه قيل: فَقُولا أيضًا: والسلامُ على مَنْ اتَّبع الهدى، ويحتمل أَنْ يكونَ تسليما منهما لم يُؤْمَرا بقوله، فتكون الجملةُ مستأنفةً لا محل لها من الإِعراب. وزعم بعضُهم أن {على} بمعنى اللام أي: والسلام لمَنْ اتَّبع الهدى. وهذا لا حاجةَ إليه.
قوله: {أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ}:
{أنَّ} وما في حَيِّزها في محل الرفع لقيامِها مَقامَ الفاعل الذي حُذِف في {أُوحِيَ إِلَيْنَآ}. وسببُ بنائِه للمفعول خوفًا أن يَبْدُرَ مِنْ فرعونَ بادرةٌ لمَنْ أوحى لو سَمَّياه، فَطَوَيا ذِكْرَه تَعظيمًا له واستهانَةً بالمخاطب. اهـ.

.تفسير الآيات (49- 55):

قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: فأتياه فقولا: إنا رسولا ربك- إلى آخر ما أمر به، وتضمن قولهما أن لمرسلهما القدرة التامة والعلم الشامل، فتسبب عنه سؤاله عن تعيينه، أستأنف الإخبار عن جوابه بقوله: {قال} أي فرعون مدافعًا لهما بالمناظرة لا بالبطش، لئلا ينسب إلى السفه والجهل: {فمن} أي تسبب عن كلامكما هذا الذي لا يجترىء على مواجهتي به أحد من أهل الأرض أن أسألكما: من {ربكما} الذي أرسلكما، ولم يقل: ربي، حيدة عن سواء النظر وصرفًا للكلام على الوجه الموضح لخزيه.
ولما كان موسى عليه السلام هو الأصل في ذلك، وكان ربما طمع فرعون بمكره وسوء طريقه في حبسه تحصل في لسانه، أفرده بقوله: {يا موسى قال} له موسى على الفور: {ربنا} أي موجدنا ومربينا ومولانا {الذي أعطى كل شيء} مما تراه في الوجود {خلقه} أي ما هو عليه مما هو به أليق في المنافع المنوطة به، والآثار التي تتأثر عنه من الصورة والشكل والمقدار واللون والطبع وغير ذلك مما يفوت الحصر، ويجل عن الوصف.
ولما كان في إفاضة الروح من الجلالة والعظم ما يضمحل عنده غيره من المفاوتة، أشار إلى ذلك بحرف التراخي فقال: {ثم هدى} أي كل حيوان منه مع أن فيها العاقل وغيره إلى جميع منافعه فيسعى لها، ومضاره فيحذرها، فثبت بهذه المفاوتة والمفاصلة مع اتحاد نسبة الكل إلى الفاعل أنه واحد مختار، وأن ذلك لو كان بالطبيعة المستندة إلى النجوم أو غيرها كما كان يعتقده فرعون وغيره لم يكن هذا التفاوت.
ولما لم يكن لأحد بالطعن في هذا الجواب قبل لأنه لا زلل فيه ولا خلل مع رشاقته واختصاره وسبقه بالجمع إلى غاية مضماره- صرف الكلام بسرعة خوف من الاتضاح، بزيادة موسى عليه السلام في الإيضاح، فيظهر الفساد من الصلاح، إلى شيء يتسع فيه المجال، ولا يقوم عليه دليل، فيمكن فيه الرد، فأخبر عنه سبحانه على طريق الاستئناف بقوله: {قال فما} أي تسبب عما تضمن هذا من نسبة ربك إلى العلم بكل موجود أني أقول لك: فما {بال} أي خبر {القرون الأولى} الذي هو في العظمة بحيث إنه ما خالط أحدًا إلى أحاله وأماله، وهو وأن كان حيدة، هو من أمارات الانقطاع، غير أنه فعل راسخ القدم في المكر والخداع.
ولما فهم عنه موسى عليه السلام ما أراد أن ترتب على الخوض في ذلك مما لا طائل تحته من الرد والمطاولة، ولم تكن التوراة نزلت عليه إذ ذاك، وإنما نزلت بعد هلاك فرعون لم يمش معه في ذلك {قال} قاطعًا له عنه: {علمها عند ربي} أي المحسن إليّ بإرسالي وتلقيني الحجاج.
ولما كانت عادة المخلوقين إثبات الأخبار في الكتب، وكان تعالى قد وكل بعباده من ملائكته من يضبط ذلك، قال مخاطبًا له بما يعرفون من أحوالهم: {في كتاب} أي اللوح المحفوظ.
ولما كان ربما وقع في وهم واهم أن الكتاب لا يكون إلاخوفًا من نسيان الشيء أو الجهل بالتوصل إليه مع ذكر عينه، نفى ذلك بقوله: {لا يضل ربي} أي الذي رباني كما علمت ونجاتي من جميع ما قصدتموه لي من الهلاك ولم يضل عن وجه من وجوهه، ولا نسي وجهًا يدخل منه شيء من خلل {ولا ينسى} أي لا يقع منه نسيان لشيء أصلًا من أخباره ولا لغيرهم، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت اليهود بأن ثبوت النبوة إن كان يتوقف على أن يخبر النبي عن كل ما يسأل عنه لزم أن يتوقفوا في نبوة نبيهم عليه السلام لأنه لم يخبر فرعون عما سأله عنه من أمر القرون؛ ثم وصل بذلك ما كان فيه قبل من الدليل العقلي على وحدة الصانع واختياره فقال: {الذي جعل لكم} أيها الخلائق {الأرض} أي أكثرها {مهدًا} تفترشونها، وجعل بعضها جبالًا لا يمكن القرار عليها، وبعضها رخوًا تسرح فيه الأقدام وبعضها جلدًا- إلى غير ذلك مما تشاهدون فيها من الاختلاف {وسلك لكم فيها سبلًا} أي سهّل طرقًا تسلكونها في أراضي سهلة وحزنة وسطها بين الجبال والأودية والرمال، وهيأ لكم فيها من المنافع من المياه والمراعي ما يسهل ذلك، وجعل فيها ما لا يمكن استطراقه أصلًا، من أن نسبة الكل إلى الطبيعة واحدة، فلولا أن الفاعل واحد مختار لم يكن هذا التفاوت وعلى هذا النظام البديع {وأنزل من السماء ماء} تشاهدونه واحدًا في اللون والطعم.